الثلاثاء 16/4/2024  
 جامعة الإمام الصادق عليه السلام والعلوم الطبيعيّة

جامعة الإمام الصادق عليه السلام والعلوم الطبيعيّة
أضف تقييـم
تميّز عصر الإمام الصادق عليه السلام بتطوّر المسلمين فكريّاً وعلميّاً، وحاجتهم إلى مختلف العلوم الدينيّة والإنسانيّة والطبيعيّة، وكذلك باتّصالهم بالمجتمعات ذات الرصيد الواسع في العلوم والمعارف.

وقد كان للإمام الصادق عليه السلام دورٌ بارزٌ في الجانب العلميّ، فنقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر ذكره في البلدان(1). ولا تزال البشريّة جمعاء ترجع إلى علومه عليه السلام من خلال تلامذته ومؤلّفاتهم وآثارهم التي خلّفوها بعدهم. على الرغم من أنّ الأئمّة عليهم السلام جميعهم، أُرسلوا هادين ومهديّين، إلّا أنّهم تركوا بصمة خاصّة في العلوم الإنسانيّة. وقد أسّس الإمام الصادق عليه السلام الكثير من العلوم، وأوضح قواعدها، وترك للعلماء السبر والغور في تفاصيلها. ومن هذه العلوم: الطبّ، الطبيعيّات، الأحياء، المعادن، الزراعة، الفلك والنجوم، الكيمياء والفيزياء، الرياضيّات،... وغيرها الكثير. وسنقتصر في هذه المقال على ذكر بعضها حسبما جاء في كتابات بعض الباحثين.
 
* علم الطبّ
لقد بيّن الإمام عليه السلام المرتكزات العلميّة التي يقوم عليها علم الطبّ، وذلك من خلال:
1- جسم الإنسان ووظائفه: بيّن عليه السلام طبيعة جسم الإنسان ووظائفه في جوابه للنصرانيّ الذي سأله عن تفصيل الجسم، فقال عليه السلام : "إنّ الله تعالى خلق الإنسان على اثني عشر وصلاً، وعلى مائتين وستّة وأربعين عظماً، وعلى ثلاثمائة وستّين عرقاً"(2). وشرح عليه السلام للمفضَّل بن عمر طبيعة جسم الإنسان وتشريحه، وكيفيّة خلقه بهذا النحو، ووظائف أعضائه وجوارحه (الفسيولوجيا)، وكيفية حصول الدورة الدمويّة في الجسم ووظائفها. ثمّ تطرّق الإمام لطبّ الأطفال من خلال بيان بعض الحالات التي تصيب الأطفال وأسبابها وعلاجها. ثمّ بيّن له علم تشريح الحيوانات وأصنافها، ووظائف الحيوانات ومهامها، وفلسفة وجودها في هذه الحياة. وهذا الغوص في علم الأحياء قد سبق به الإمام عليه السلام العلوم الحديثة التي لا تزال تسعى لبيان وظائف الحيوانات وكيفيّة عيشها وحياتها، وتكاثرها، وأسباب وجودها، وكيفيّة تعايشها، وانتظام حياتها وبقائها(3).

2- فتح آفاق العلوم التجريبيّة: لقد كشف الإمام عليه السلام لعلماء علم الأحياء أنّ الحيوان الأقرب للإنسان هو القرد؛ وهذا ما ارتكزت عليه العلوم الطبّيّة في إقامة التجارب العلميّة وفحص مدى دقّتها بتجربتها على الحيوانات قبل البشر؛ وبالتالي أرسى عليه السلام أهمّ مرتكزات العلوم الطبيعيّة القائمة على المنهج التجريبيّ؛ لفتح الآفاق العلميّة لدى العقل الإنسانيّ، وهذا بمثابة شعلة أوقدها الإمام عليه السلام للبشريّة.

3- قواعد علم الطبيعيّات: وضع الإمام عليه السلام القواعد الأساسيّة لعلم الطبيعيّات -خصوصاً أنّنا نعيش اليوم قضيّة انتشار فيروس كورونا-، فشرح عليه السلام كيفيّة انتقال العدوى، وسُبُل الوقاية والعلاج منها:
أ- أوصى بعدم الاختلاط بالمصابين بمثل مرض الجذام(4): حيث ورد في حديث المناهي الذي رواه الإمام الصادق عليه السلام : عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم"كره أن يكلّم الرجل مجذوماً، إلّا أن يكون بينه وبينه قدر ذراع"(5).
ب- كلّ داء من التخمة: في علم الصحّة (التغذية)، بيّن الإمام عليه السلام أنّ هذا العلم قائم على عدم الوصول إلى مرحلة التخمة؛ بقوله عليه السلام : "كلّ داء من التخمة، ما عدا الحمّى فإنّها ترد وروداً"(6). وكشف الإمام عليه السلام عن أسباب تعدُّد الأمراض وتنوعها، وتأثيرها على الإنسان(7).
ج- العلاج بالنبات: أوضح الإمام الصادق عليه السلام أنّ الطريق الصحيح للعلاج هو عبر العلاجات النباتيّة، فشرح خصائص النباتات بما يساهم في علاج العديد من الأمراض. وبذلك عمل عليه السلام على بناء قاعدة طبّيّة في صناعة الأدوية تقوم على الطبيعة، وتبعد الإنسان عمّا يضرّه ويفسد جسده وروحه وعقله. ومن تلك النباتات: الثوم، العدس، التفاح...(8).

* الفلك والنجوم
للإمام الصادق عليه السلام إسهامات كبيرة في علوم الفلك والنجوم والهيئة، وكان له العديد من التلامذة، والروايات والمناظرات الواردة عنه عليه السلام تكشف كيف أنّه عليه السلام بيّن كيفيّة نشوء الكون، ثمّ شرح كلّ ما يتعلّق بضوء القمر، والشمس، ودوران الأرض حول نفسها، وتعاقب الليل والنهار، كما وتحدّث عليه السلام عن الكواكب (ميكانيكيّة النجوم)، وبيّن كثرتها اللامتناهية(9)، وفنّد بذلك نظرية بطليموس (ت170م) حول دوران الشمس.

ومن تلامذته في هذا المجال الفلكي هشام الخفّاف، الذي كان يحاور الإمام عليه السلام في هذا العلم. وذات مرّة دخل هشام على الإمام عليه السلام ، فسأله عن المنظومة الشمسيّة، وحركة الكرة الأرضيّة والكواكب...، ثمّ علّمه الإمام عليه السلام ما يتعلّق بهذه الأمور(10).
وكان من أبرز تلامذته في علم الفلك وشؤونه أبو إسحاق إبراهيم بن حبيب الفزاريّ (ت161هـ)، وهو أوّل من عمل الاصطرلاب(11) في الإسلام، وله في ذلك كتب، منها: "العمل بالاصطرلابات ذوات الحلق"، و"العمل بالاصطرلاب المسطّح"(12).

* الكيمياء والفيزياء
1- وضع النظريّات: من خلال تلميذه جابر بن حيان وغيره، أسّس الإمام عليه السلام للكثير من النظريّات العلميّة التي اكتُشفت حديثاً، فقد أشار عليه السلام إلى قضيّة الغلاف الجويّ، وتركيب الهواء من عناصر عدّة، وضرورته للحياة على الأرض، وبذلك سبق عليه السلام العالم الإنجليزيّ جوزيف بريستلي (1733-1804م) في اكتشاف الأوكسجين.
2- نقض نظريّة العناصر الأربعة: نقض الإمام عليه السلام نظريّة العناصر الأربعة القديمة [النار، الهواء، الماء، التراب] على الرغم من الاعتقاد بها مئات السنين، باعتبار تركّب العناصر من أجزاء عديدة. ومن جهةٍ أخرى، أثبت الإمام عليه السلام نظريّة القطبين المتضادّين في المغناطيس وفي الكهرباء وفي نواة الذرّة وغير ذلك، وأوضح أنّ الضوء ينعكس من الأجسام إلى العين(13).

* أطبّاء على يد الإمام عليه السلام
تخرّج على يد الإمام عليه السلام الكثير من الأطبّاء؛ كأمثال ابن ماسويه (ت234)، الذي قال للإمام عليه السلام عندما وصف له الطبائع: "فوالله، ما يحسن جالينوس أن يصف هذا الوصف"(14)، وطبيب المنصور العباسيّ، حيث علّمه عليه السلام علم التشريح وعلم الفسيولوجيا(15).

* ومن تلامذته المسلمين:
1-جابر بن حيّان:
من مفاخر علماء الشيعة الإماميّة، ومن مشاهير علماء الفلسفة، والطبّ، والكيمياء، والفيزياء، والرياضيّات، والفلك، والمنطق، والنجوم. ويعدّ جابر مؤسّس علم الكيمياء، وقد أخذ علمه هذا من أستاذه الإمام الصادق عليه السلام (16)، وكان له العديد من الابتكارات والاختراعات فيه. وكان للغربيّين اهتمام بالغ بجابر وبعلومه ومؤلّفاته، واشتهر عندهم باسم Geber، وباللاتينية Geberus. وقد قام بول كراوس بجمع بعض مخطوطات جابر من مختلف المكتبات الأوروبيّة، ونشرها بعنوان: "مختار رسائل جابر بن حيان"، وألّف مجلَّدَين عنه، وعن مؤلّفاته، ومذهبه(17).

وقال Berthelot .M: "لجابر في الكيمياء ما لأرسطو طاليس قبله في المنطق"(18).
وقد عُثر على معمل جابر في الكوفة ووجدت فيه قوارير(19)، وموقد، وأفران، وهاون، وميزان، وأجهزة تقطير إلى جانب كثير من الأدوات، فكانت ما يقرب من أربعين جهازاً وأداةً(20).
كما اشتهر جابر بعلم النجوم والفلك، ودوّن العديد من الكتب حوله، وكان بارعاً في علم الطلسمات(21)، وله في مدينة مصر تأليف في عمل الاصطرلاب يتضمّن ألف مسألة لا نظير له(22)، وعثر له السيّد ابن طاووس على مؤلّف في علم النجوم(23).
وأمّا في علم الطب الإنسانيّ والحيوانيّ، فقد ألّف (500 كتاب) في مختلف علومه، وقد نقل جابر روايات طبّيّة عدّة عن الإمام الصادق عليه السلام (24).

2-المفضل بن عمر:
من خاصّة تلامذة الإمام الصادق عليه السلام في علم الطبّ والعقيدة، وهو من علماء الشيعة، ومصنّفيهم(25). علمه عليه السلام الطبّ بشكل مفصّل، وقد دوّن المفضل ذلك في كتابَيه: كتاب التوحيد، وكتاب الأهليلجة (الأهليجيّة) (26)، وهما كتابان مهمّان في تأسيس علم الطبّ.

3-هشام بن الحكم:
من أبرز تلامذة الإمام الصادق عليه السلام في علم الكلام، وهو من المتخصّصين في علم الكيمياء أيضاً، وله نظريّة في جسميّة الأعراض؛ كاللون والطعم، وأنّ الأشياء تتكوّن من جزئيّات صغيرة كما ثبت في العلوم الحديثة(27).

وختاماً، إنّ الإمام الصادق عليه السلام كان مؤسّساً لحركة علميّة ضخمة، ومفجّر ينابيع العلم، وإنّ معظم العلماء المسلمين المتخصّصين في هذه العلوم، قد استفادوا من تلامذته، وإنّ المجتمعات الإنسانيّة بمختلف أطيافها لا تزال تعتمد على ما كتبه وألّفه تلامذته عليه السلام .
 


1- كشف الغمة، الأربلي، ج2، ص379.
2- مناقب آل أبي طالب، ابن شهر آشوب، ج3، ص379.
3- (م.ن)، ج3، ص379.
4- وهذا من باب المثال فقط، وإلّا فالرواية تنطبق على كلّ مرض مُعدٍ.
5- الأمالي، الصدوق، ص378.
6- راجع: المحاسن، البرقي، ج2، ص447.
7- مناقب آل أبي طالب، (م.س)، ج3، ص380.
8- راجع: المحاسن، (م.س)، ج2، ص504، 337-565؛ الكافي، الكليني، ج6 (كاملاً) وغيرها من المصادر، يوجد في هذه الكتب الكثير من الأحاديث الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام في علم الطبّ والعلاج، وغيرها.
9- التوحيد، المفضل بن عمر، ص8؛ مناقب آل أبي طالب، (م.س)، ج3، ص379.
10- الكافي، الكليني، ج8، ص351.
11- الاصطرلاب: هو آلة فلكيّة قديمة ذات صفائح ثنائيّة، بمثابة حاسوب لحركة الشمس والنجوم، ولمعرفة الأوقات.
12- راجع: الفهرست، ابن النديم، ص332؛ الاصطرلاب لفظة يونانية مأخوذة من كلمة: "الاصطرلابون"، ومعناها مرآة النجم (اصطر: النجم، لابون: المرآة)، وقيل: إنها لفظة فارسية أصلها (ستارة باب؛ أي كاشف النجم. راجع: موسوعة المصطفى والعترة، حسين الشاكري، ج9، ص417.
13- راجع: الخصال، الصدوق، ص511؛ الإمام الصادق عليه السلام كما عرفه علماء الغرب، نور الدين آل عليّ، ص126.
14- مناقب آل أبي طالب، (م.س)، ج3، ص382.
15- الخصال، (م.س)، ص511.
16- راجع: الإمام الصادق عليه السلام ملهم الكيمياء (كامل الكتاب)، محمد يحيى الهاشمي.
17- Kraus.Jabir IbnHayan.
18- الأعلام، الزركلي، ج2، ص104.
19- القارورة: وعاء من زجاج طويل، له عنق، يُسدّ بسدّادة، توضع فيه السوائل.
20- الفهرست، (م.س)، ص420.
21- الطلسم: في علم السحر، خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنّه يربط بها روحانيّات الكواكب العلويّة بالطبائع السفليّة، لجلب محبوب أو دفع أذى.
22- البدء والتاريخ، البلخي، ج2، ص236.
23- فرج المهموم، ابن طاووس، ص146.
24- راجع: طب الأئمّة عليهم السلام، (كامل الكتاب)، ابنا بسطام، عبد الله وحسين بن سابور الزيات.
25- راجع: اختيار معرفة الرجال (رجال الكشي)، الطوسي، ج2، ص612.
26- سمّي هذا التوحيد بالإهليلجة؛ لأنّ الإمام الصادق عليه السلام كان مناظراً فيه لطبيب هندي في إهليلجة كانت بيد الطبيب، راجع: الإمام الصادق عليه السلام ، المظفر، ج1، ص167. والهَلِيلِجُ والإِهْلِيلَجُ والإِهْلِيلِجَة: عِقِّيرٌ من الأَدوية معروف، وهو معرّب. راجع: لسان العرب، ابن منظور، ج2، ص392.
27- هشام بن الحكم، الشيخ عبد الله نعمة، ص181.
عدد المشـاهدات 1655   تاريخ الإضافـة 13/06/2020 - 12:21   آخـر تحديـث 16/04/2024 - 04:58   رقم المحتـوى 15162
 إقرأ أيضاً