الجمعة 17/5/2024  
 بابل: التاريخ من النقطة صفر

بابل: التاريخ من النقطة صفر
أضف تقييـم
أن تحتفي بابل بالكلمة، يعني أنها تحتفل بالحياة. الحياة التي تليق بالعراق وأهله، ويستحقها العراق وأهله.
تقف على منبر بابل كمن يقف على شرفة التاريخ.
كم من الحضارات مرّت من هنا!
كم من الملوك والقادة والجيوش!
كم من الحروب والأهوال والمحن!
كم من النقوش والقصائد والأناشيد!
كم من قصص العشق والبطولة! 
حروبٌ اندلعت، معارك دارت، ممالك انتصرت وأخرى هُزِمت، وظل المكان شاهداً على كل ما كان.
كأنّ قدر هذه البلاد أن يظل حاضرها مفتوناً بماضيها، أو أن يهوى حاضرها تكرار ماضيها، ولو غالباً على شكل مأساة. فما بين الهوى والهاوية أكثر بكثير من مجرد اختلاف حرفين.
تقف على منبر بابل يتداعى إليك التاريخ منذ نشأته الأولى. كأنك في النقطة صفر من هذا التاريخ المنقوش على الصخر وفوق عتبات المعابد، والمدوِّن بعذابات الناس ودماء المحاربين وأحلام العشاق والشعراء. هنا، أول حرف، أول كلمة، أول نوتة، أول قصيدة. هنا، نبع اللغة المتدفق، وأنهارها الجارية، وأبجدياتها التي تشكّلت تباعاً فيما كان الناس يشكّلون أوطانهم وهوياتهم مملكة تلو مملكة، حرباً تلو حرب، حرفاً تلو حرف.
تقف على منبر بابل ويخطر لك أن تصرخ مجدداً:
بعد ألف عام، ألف حرب...
‏سوف يعثرون في الريح على صوتي، 
صوتي الذي لم يُنصِت إليه أحدٌ يومَ صرختُ: 
‏وحده الحُبّ يُنقِذُ العالم!
مُبَشِّراً بالحب والخير والجمال تتذكّر إلهة الحب والحرب عشتار نجمة الصبح والمساء، الملتبِسة الجميلة العالقة على متن حرفٍ بين الحب والحرب. من يومها، مذاك الزمان وشعوب هذه البلاد تحاول عبثاً إسقاط الراء القاتلة من كلمة الحرب كي تسود كلمة الحب وتتوقف آلة الحرب، لكن ما أكثر آلهة الحروب، وما أكثر الطامعين والغزاة، وما أكثر المستبدين والطغاة. فكيف تسقط الراء وفي كل زمان إمبراطوريات شرّ وظلام تسعى لفرض سيطرتها على الأرض ونهب الخيرات والثروات.
يا لها من مفارقة، وأنت تُنشد الحب والخير والجمال، وتنتشي بعبق الزمان والمكان، يتناهى إليك نبأ عدوان جديد شُنّ على بابل وحرّاسها، كأن المعتدي ما نسي يوماً فعلة نبوخذ نصر، كلما سنحت له فرصة يحاول ثأراً من التاريخ والجغرافيا معاً.
تحاول حُبّاً في زمن الحرب ولا تموت دونه. لأن الحُبّ حين يميتك يبقيك حياً إلى الأبد. أليست هذه حال عنترة والمجنون وكُثَير وديك الجنّ وسواهم ممن ماتوا في الحُبّ فعاشوا إلى دهر الداهرين؟
لا الحروب تتوقف، ولا الحب يعمّ الأرض. لكنك، كما تردد دائماً، تكتبُ كي تحيا. 
فعلُ الكتابة عندك دليل حياة.
أذكرُ في زمن الحرب المسماة أهلية في لبنان كنا تحت القصف نحمل قصائدنا إلى هذه الصحيفة أو تلك، ننتظر نشرها في اليوم التالي، وكم كنا نبتهج ونفرح حين نقرأ أسماءنا في صفحة الفكر والأدب لا في صفحة الوفيات. كانت القصائد في جريدة "الصباح" برهان نجاتنا من ليلة قصف مدمر، والكتابة دليل بقائنا على قيد الحبر والورق، على قيد النجاة، على قيد الحياة.
الكتابة حياة.
أن تحتفي بابل بالكلمة، يعني أنها تحتفل بالحياة. الحياة التي تليق بالعراق وأهله، ويستحقها العراق وأهله، هم الذين يتوارثون الشعر كما يتوارثون الألقاب والمِحن، وأن يكون لبابل مهرجانها السنوي للثقافات والفنون العالمية فهذا وجه آخر جميل للعراق الذي أعطى العالم الكثير وما ناله من العالم إلا البطش والأذى.
نقف على شرفة التاريخ ونحن ندرك كم نحتاج أن نعيد قراءة هذا التاريخ قراءة عميقة شجاعة لا تخشى المحظور، كي نستطيع الانخراط حقاً في كتابة التاريخ عِوَض أن نظلّ ضحاياه أو مجرد قراء له.
**
كَصَيّادٍ بابليٍ مَضيْت (*)
‏طريدتي نَفْسي الأمَّارة بالحبق(...)
‏مُنشِداً للراحلين على هَوْدَجِ الغياب،
‏لِسِرِّ الحياة في سُرَّة الحياة،
‏لِباعَةِ الوردِ في الطرقات،
‏لِعاشقٍ ناحلٍ مائلٍ جهةَ القلب،
‏لفتاةٍ مُسْرِعَةٍ إلى قُبلتها الأولى،
‏لِكُلِّ نَفْسٍ ذائقة الحُبّ.
عدد المشـاهدات 46   تاريخ الإضافـة 01/05/2024 - 12:20   آخـر تحديـث 17/05/2024 - 10:17   رقم المحتـوى 24935
 إقرأ أيضاً